الفصل 6
بعد خروجهما من مكتب الأحوال المدنية، ودَّعت سارة السيد برهان رستم: "سيد برهان، الطبيب يمنع الزيارة بعد الظهيرة، لذا لن تتسنى لي العودة معك، سوف آتي غدًا قبل الظهيرة مرة أخرى لزيارة الخالة سمية".

كانت سارة في عدم وجود الخالة سمية، تحافظ على مسافة بينها وبين السيد برهان.

أجابها السيد برهان بنبرة فاترة: "كما تشائين".

فانصرفت سارة لوحدها.

سأل حازم السيد برهان وهما داخل السيارة: "ألا تخشى هروبها يا سيدي؟".

ابتسم السيد برهان ابتسامة صفراء وهو يقول: "تهرب؟ إلى أين، أستعود للعمل نادلة في المطعم الذي اعتدت الذهاب إليه؟ كيف ستأتي حينئذ لاقتراض المال من أمي ثانية؟ لم تكن تبتغي من هروبها في المرتين السابقين سوى رفع سعرها".

حازم: "كلامك صحيح".

قال السيد برهان: "انطلق بالسيارة".

انطلقت السيارة مسرعة بجانب سارة دون أن يلتفت إليها السيد برهان مطلقًا.

جرَّت سارة جسدها المنهك وعادت إلى المنزل.

وما إن وصلت إلى بوابة المنزل، استوقفتها إحداهن: "سارة! هل كنتِ حقًا مختبئة في هذا الحي؟".

إنها لينا!

قبل عامين، كانت لينا تعيش حياة فوضوية، ومن جراء ذلك؛ تعرضت للاغتصاب من رجل منحط طاعن في السن وقبيح، وفي أثناء تلك الواقعة، استغلت لينا انشغال الرجل وضربته في رأسه بحذاء كعب عال فمات على الفور.

ولتخليص ابنتهم من التهمة، اقتادت عائلة لينا، سارة، بعدما جعلوها تسكر، إلى موقع الجزيمة الملفَّق بإحكام.

من ثم، حُكم على سارة بالسجن عشر سنوات بتهمة القتل غير المتعمد.

بذلك تجنبت لينا الوقوع في غيابات السجن.

فلما تذكرت سارة ذلك الأمر، ودَّت لو تخنق لينا حتى الموت.

نظرت سارة إلى لينا بعدم اكتراث وقالت: "كيف عثرتِ عليّْ؟".

قالت لينا بنبرة متعالية: "أتعرفين ماذا يطلق على هذا المكان يا سارة؟ المنطقة العشوائية، إنها المنطقة العشوائية الوحيدة في المدينة الجنوبية، ومعظم من يعشن هنا بائعات الهوى، إذ يمكن الحصول على إحداهن مقابل خمس دولارات فقط، وتكسب بائعة الهوى إن عملت ليلةً كاملةً مائة دولار، يا له من مبلغ طائل".

سألتها سارة بنبرة ساخرة: "هل أتيتِ خصيصًا لتتباهين أمامي بأنكِ تجنين في الليلة الواحدة مائة دولار".

"أنتِ!"، همَّت لينا برفع يدها كي تصفع سارة، وما إن رفعت نصف يدها توقفت.

ثم قالت وهي تضحك: "أوه، كدتِ تغضبينني، اسمعي، إنني على وشك الزواج، ونقوم ببعض التشطيبات في المنزل، وقد عثر العمال وهم يلملمون القمامة داخل المنزل، على عدة صور لكِ ولأمكِ….".

سألتها سارة متلهفة: "صورة أمي؟ لا تضيعيها، سآتي لأخذها".

لقد ماتت أمي، وأي صورة متبقية لها هي بالتأكيد كنز ثمين.

سألتها لينا بنبرة لا هي فاترة ولا متحمسة: "متى تأتين لأخذها؟".

"غدًا بعد الظهيرة".

"إذن غدًا بعد الظهيرة! وإلا ستلوث تلك القمامة بيتنا إن ظلت فيه يومًا آخر!"، قالت لينا هاتين الكلمتين ثم انصرفت تتبختر بحذائها ذي الكعب العالي.

وبعد انصراف لينا بقليل، خلدت سارة إلى النوم.

إنها الآن في الأسابيع الأولى من الحمل، وقد أنهكها التعب مما بذلته طيلة اليوم، لذا فكرت في النوم باكرًا والاستيقاظ باكرًا للذهاب إلى المستشفى لإجراء اختبار الحمل.

في صباح اليوم التالي، انطلقت سارة إلى المستشفى باكرًا واصطفت في الطابور أمام غرفة التصوير بالسونار، ولما تبقت أمامها في الطابور امرأة واحدة، تلقت اتصالًا هاتفيًّا من السيد برهان، فأجابت سارة: "ما الأمر يا سيد برهان".

أجابها السيد برهان على الناحية الأخرى من المكالمة بنبرة غاية في البرود: "أمي تشتاق إليكِ".

نظرت سارة فلم تجد أمامها في الطابور سوى امرأة واحدة، فحسبت الوقت المتبقي تقريبا: "سأصل إلى المستشفى في غضون ساعة ونصف".

أجابها السيد برهان مقتضبًا: "حسنًا".

"بالمناسبة…"، تنحنحت سارة ثم قالت: "سأبذل وسعي لإسعاد الخالة، هل لي ببعض المال؟ يمكنك خصمه من تعويضات طلاقنا، حسنًا؟".

"سنتحدث في ذلك لاحقًا"، لم يكترث السيد برهان لما تقوله سارة وأغلق الخط.

كان أكثر ما يكرهه أن يساومه أحد في أمر المال!

تابعت سارة الاصطفاف في الطابور.

ولما حان دورها في الدخول، قدِمت فجأة من الخارج حالة طارئة تحتاج إلى إجراء تصوير بالسونار، وقد استغرق الأمر أكثر من نصف ساعة، ولما أتى الدور على سارة مرة أخرى، علمت أن الحمل الأول يتطلب فتح ملف جديد.

بذلك تعطلت أكثر من نصف ساعة أخرى!

ولما وصلت سارة إلى غرفة السيدة سمية، سمعتها تبكي: "أيها الابن العاق، هل تخدع أمك؟ أنا أسألك عن سارة!".

"لقد حصلنا على وثيقة الزواج بالأمس يا أمي"، ثم أعطى السيد برهان وثيقة الزواج لأمه.

راحت العجوز تدفع ابنها بعنف وتقول: "أحضر لي سارة الآن".

نهض السيد برهان مغادرًا وهو يقول: "سأبحث عنها حالًا".

قابلته سارة عند مدخل الغرفة فإذا عيناه تقدحان الشرر.

طأطأت سارة رأسها وانطلقت نحو مقدمة سرير السيدة سمية وهي تحمل في يدها شيئًا، ثم قالت لها بتلطف: "سامحيني، أتيت متأخرة يا خالة، لقد كنت أسمع منكِ دائمًا وأنا في السجن أنكِ تحبين كعكة التمر، فاشتريت لكِ علبة منها".

ابتسمت السيدة سمية ابتسامة مبللة بالدموع: "أما زلتِ تتذكرين أن الخالة تحب كعكة التمر يا صغيرتي؟".

"طبعا"، ناولت سارة الخالة سمية كعكة وقالت: "تفضلي يا خالة".

نظرت الخالة سمية إلى سارة بشوق وقالت: "ينبغي عليكِ مناداتي 'يا أمي'".

سارة: ".….يا أمي".

قالت الخالة سمية مغتبطة: "يا إلهي…..لو مت الآن سأكون مرتاحة البال لوجودكِ إلى جوار ولدي".

احمرت مقلتا عيني سارة وقالت: "لا تقولي هكذا يا أمي، طول العمر لكِ…..".

بعدما روَّحت سارة الحزن عن السيدة سمية وجعلتها تنام في سرور واطمئنان، توجهت نحو السيد برهان وقالت وهي تعض على شفتيها: "هل لي بمبلغ يسير من المال يا سيد برهان؟".

بدت ملامح السيد برهان جامدة، ثم قال بهدوء تام: "قلتِ إنكِ ستصلين بعد ساعة ونصف، ثم أتيتِ بعد ثلاث ساعات، إذا رأيتكِ تلعبين مع أمي لعبة القط والفأر وتثيرين استفزازها ثانية فلن أعطيكِ أي مال".

اقشعر جسد سارة فجأة؛ فقد كانت لهجته الهادئة هذه تفوح منها رائحة شريرة واضحة.

كانت تعرف أن هذا ليس مجرد كلام.

قالت سارة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة ساخرة: "فهمت، أموال الأغنياء ليست سهلة المنال! لن أتطرق إلى هذا الموضوع ثانية، لكن يجب أن أتأكد من أمر ما، أنت ستساعدني في إتمام إجراءات تسجيل الإقامة الدائمة، أليس كذلك؟".

السيد برهان: "سأنفذ لكِ كل البنود المنصوصة داخل العقد".

"شكرًا لك، أستأذنك في الانصراف فلدي ما أفعله بعد الظهيرة"، ثم غادرت سارة وحيدة.

صاحت السيدة سمية من داخل غرفتها في المستشفى: "برهان….".

دخل السيد برهان الغرفة على الفور: "أمي؟".

قالت السيدة سمية بنبرة حنونة وصادقة: "أعلم أنك لا تستلطف سارة، لكنها يا بني أسدت إلى أمك معروفًا حين تكبدت مشقات جمَّة داخل السجن لا طاقة لأمك بتحملها، أمك هي الوحيدة التي تدرك مدى ولائها وإخلاصها، هل ما قاسيناه أنا وأنت مع عائلة السيد رستم يعد أمرًا يسيرًا؟ أخشى أن.….فقط أريد أن أبحث لك عن شريكة وفيّة لا تتخلى عنك أبدًا، هل تتفهم قلق أمك؟".

أومأ السيد برهان برأسه: "أفهم يا أمي".

تابعت السيدة سمية كلامها وهي تتجهز للنزول من السرير: "أريد أن أكلم الخالة سعاد، يجب أن أعرف إن كانت سارة تعيش في بيتنا أم لا، لن يطمئن قلبي حتى يتحقق زواجكما".

السيد برهان: ".…..".

في تلك الأثناء، رن جرس هاتفه، فأجاب على الفور بنبرة كئيبة: "ما الأمر؟".

أجابته لينا على الناحية الأخرى بنبرة لا تخلو من الدلال المصطنع: "عزيزي برهان، أريدك أن تأتي بعد الظهيرة إلى بيتنا لنناقش تفاصيل الزفاف، ما رأيك؟".

أبدى السيد برهان رفضًا قاطعًا: "ليس لدي وقت فراغ اليوم!".
Sigue leyendo en Buenovela
Escanea el código para descargar la APP

Capítulos relacionados

Último capítulo

Escanea el código para leer en la APP