لم تعد سارة تفهم هذا الرجل على الإطلاق، فتقلب مزاجه أسرع من تقلب أمواج البحر.هو من طلب الطلاق منها في السابق، والآن بمجرد ذكرها للطلاق امتعض وجهه، أيمكن أن تكون وفاة أخته قد تسببت له باضطراباتٍ أو أزماتٍ نفسية؟حين أنهى أحمد غسيل وجهه وخرج، كانت سارة لا تزال مستلقية على السرير منصرفةً عنه.ولم يبقَ بينهما وداعٌ دافئ كما كان الأمر في السابق، بل كل ما تبقى هو الصوت الموحش للباب وهو ينغلق.كانت سارة تدرك ضعف جسدها في الأيام الأخيرة، لذلك لم تبدِ أي مقاومة.الشيء الوحيد الذي بقي على حاله طوال تلك الزيجة هو هالة التي كانت تضع مئزرها يوميًا، وتعد لسارة الطعام بشغف."سيدتي، لقد أعددت لكِ حساء الخضراوات اليوم ليقوي بدنكِ، عليكِ أن تشربي منه الكثير"ابتسمت سارة برقةٍ وقالت: "يا هالة، أيمكنكِ إعداد حساء المأكولات البحرية من أجلي؟""بالطبع!"نظرت هالة إلى الجو بالخارج، وقالت: "لقد غطت الثلوج الحديقة بالكامل، ألا ترغبين بالخروج للعب بالثلج؟ أذكر أنك لطالما أحببت اللعب بالثلج مع زوجكِ في السابق، أليست العلاقة بين الرجل والمرأة مجرد لعبٍ ولهو؟""لن أخرج، سأغفو قليلًا"أغلقت هالة الباب خل
كانت سارة مستغرقة في التفكير، ففاجئها صوت أحمد، وجعلها تسقط على الأرض، وتناثرت الأوراق من حولها.يعود أحمد متأخرًا في العادة، فلما عاد مبكرًا اليوم؟وعلى الرغم من كونهما ما زالا متزوجين، إلا أن ما فعلته سارة كان أمرًا مشينًا، خاصةً وهي تعرف أن أحمد يكره حياكة الأمور من وراء ظهره.ابتلعت سارة ريقها، وقالت بوجهٍ شاحب: "لقد... لقد عدت"لم تكن تعرف من أي مناسبةٍ جاء أحمد، فقد كان يرتدي بدلةً رسميةً سوداء بقميصٍ أبيض، وكانت البدلة تظهر قوامه الممشوق، وسرت القشعريرة في جسدها ما إن نظر لها أحمد بعينيه الباردتاين.تقدم منها ببطء، بينما كانت أصابعه تخلع سترة البدلة بهدوء. ولد أحمد بملعقةٍ من الذهب في فمه، فكانت كل إيماءةً منه مفعمةً بالفخامة.وعلى الرغم من أن كل ما قام به هو خلع ملابسه، إلا أن الرعب قد دبَّ أوصال سارة التي أرادت الهرب، لكنها شعرت وكأن قدماها مشلولتان.قبل علاقتها بأحمد، كان يعرف عنه أنه وحش عديم الرحمة.الآن فقط أدركت مدى رعب أحمد من منظور الآخرين، فهالته المخيفة تلك تغطي على كل ما حوله. استندت سارة على يديها وهي جالسة على الأرض، وتراجعت خطوةً للوراء مع كل خطوةٍ يقتربها
عُقد لسان سارة، وأثر هذا الأمر بها تأثيرًا عميقًا، فقد كان أحمد يدللها في السابق، والآن أصبح شديد القسوة تجاهها، وهذا لا يعني أنه قد تغير، وإنما هي التي لم ترَ هذا الجانب منه إلا الآن.قد يكون الأمر سيان مع رشيد.قالت سارة هامسةً: "مهما حدث فأنا متأكدة أنه لن... يقتل"داعب أحمد وجنة سارة بأصابعه برفق، وقال: "حبيبتي سارة، يا لك من ساذجة، ألم تكوني متأكدة أيضًا أنني لن أترككِ أبدًا؟"كان نبرته به مزيج من الحنان والغموض، وكأنه ما زال حبيبها اللطيف من الماضي، لكن عيناه كانتا خاليتان من أي مشاعر.أصابت كلماته سارة في الصميم، فلم تعتقد أبدًا أنه قد يتخلى عنها، حتى رأته في الأخبار وهو يضع يده على صفاء في المطار، فكان الأمر كصفعةٍ انهالت على وجهها.أكمل أحمد حديثه قائلًا: "ألم ترغبي دائمًا بمعرفة الحقيقة؟ سأخبرك اليوم؛ لم يرد رشيد هذا الطفل، حيث لم يرد أن يكوّن عائلة مع زهرة، وكانت الثلاثة أشهر الأولى هي أفضل فترة للإجهاض، فحدثت بينهما مشاجرة ذلك اليوم، فقتل زهرة وألقى بها في البحر"أحكم أحمد قبضته على ذقن سارة، وكان يرمقها بجفاءٍ قائلًا: "لم يكن لي أختٌ سواها، أحببتها بشدة منذ الصغر، و
كانت سارة تعتقد أن والدها أبٌ محبٌ في المنزل، ورجلٌ طيبٌ في الخارج، فقد كان يتبرع للأعمال الخيرية بشكلٍ منتظمٍ بجانب مساعدته وتكفله بالطلاب.ففي جميع الأخبار، كان والدها يُصوّر كإنسانٍ كريمٍ ومتواضع، بل كرجلٍ مثالي.وكانت تعبيرات وجه سارة تزداد دهشةً مع كل ورقةٍ تطالعها وهي جاثية على ركبتيها لجمع الأوراق المبعثرة على الأرض.من الواضح أن أحمد قد أتم عمله على أكمل وجه، فقد عثر على أدلةٍ واضحة حتى عن النسوة اللاتي خرجن مع رشيد لبضعة أيامٍ فقط.كان رشيد على علاقة بالكثير من النساء على مدار أكثر من عشرة سنوات، وكلهن كن فتيات صغيرات ذوات ملامح جميلة وبريئة.لم يكن هذا صعب التفسير، فهو وسيم، محافظ على وزنه حتى بعد أن بلغ منتصف العمر، يمارس الرياضة بانتظام فكان ممشوق القوام وأنيق، فكان الرجل الثري الوسيم هو أكثر ما يجذب الفتيات اليافعات.لكن يبدو أنه كان يفضل الفتيات القادمات من المناطق الجبلية، واللواتي يعانين من ظروفٍ معيشيةٍ صعبة.ربما لأنهن لم يتعرضن لما قد يُفسد براءتهن من تلوث.أكد أحمد ذلك، فقال: "أكنت تظنين أنه يساعد الأطفال في المناطق الجبلية بدافع الخير؟ لقد اعتبرهم ببساطة فر
كانت أسماء تعني لأحمد ما تعنيه سارة لرشيد."لا يمكن إنكار أن رشيد قد يكون أبًا جيدًا، لكنه بالتأكيد لم يكن شخصًا جيدًا، فقد أخفى قلب شيطان خلف مظهره الزائف. يا حبيبتي، الآن وقد وصلت الأمور لهذا الحد، فسأخبركِ بكل شيء"ركع أحمد على ركبتيه ممسكًا بوجه سارة، ولمعت عيناه بابتسامةٍ غريبة."أنت حياتي كلها، أحبكِ لدرجة أنني لا أستطيع تحرير نفسي من قيود غرامك، لكن في الوقت نفسه أنت إبنة رشيد الوحيدة! لذا أكرهكِ بقدر ما أحبكِ"شعرت سارة بالبرودة تجتاح جسدها على الرغم من أنه كان مبتسمًا."ذلك اليوم حين سقطت أنا وصفاء بالماء، هل تعمّدت إنقاذها أولًا؟ هل أردت أن يدفع طفلنا ثمن حياة طفل أختك؟""نعم، العين بالعين"تشبثت سارة بقميصه والدموع تنهمر من عينيها، وصرخت: "هل جُننت؟ إنه طفلنا! لم يأتِ إلى الحياة بعد، فما ذنبه؟ إنه طفل بريء!"ابتسم أحمد بخبثٍ مميلًا رأسه، وقال: "وماذا عن أختي؟ ألم يكن طفلها أيضًا بريء؟"نظرت سارة لأحمد الذي بدا كشخصٍ آخر تمامًا، وأدركت أن هذا الصراع لا يمكن حله مهما حدث."أحمد، أنا أفهم كم هو مؤلمٌ فقدانك لأختك..."تغيرت تعبيرات وجه أحمد فجأة، وصرخ بصوتٍ حاد: "أنت
انهمرت دمعتانن صافيتان على وجنتي سارة، وأدركت أنه لم يعد بإمكانها هي وأحمد العودة لما كانا عليه من قبل.لقد خانها ودمر عائلتها، في حين أن عائلتها مدينةٌ له بحياة أخته.تلك الحسابات لا يمكن تسويتها مهما حدث، فهما كخيطان منعقدان، كلما تشابكا أكثر، انخنقا حتى الموت.أمسك أحمد وجهها بين كفيه، ومسح دموعها بإبهامه قائلًا: "حبيبتي سارة، لا تحبيني، بل اكرهيني. لقد خنتكِ، وقتلت طفلنا، ولا ينفع الندم الآن"شعرت بزعزعة مشاعره، وحنانه نادر الظهور، فكانت تلك اللحظة أشبه بالوادي الأخضر الذي أنبت حديثًا وسط جبالٍ من الثلوج.لكن سرعان ما جرفت عاصفة ثلجية جديدة تلك الخضرة بالكامل.استدار أحمد موجهًا ظهره لسارة، وغادر الغرفة المليئة بالفوضى.كانت سارة تعلم أن ذلك وداعهما الأخير.انقطعت كل سبل العودة بينهما نهائيًا.عندما خرجت سارة، لم تجد أي أثرٍ لهالة، وكانت هالة بطيب نيتها تظن أن الأمر مجرد خلافات بسيطة، لذا كانت تبذل جهدها للصلح بينهما.كانت سارة في نظرها هي زوجة أحمد الوحيدة، ولم تدرك أنها كانت مخطئة.ابتسمت سارة بسخرية، فلم تكن تشعر بالوحدة بوجود هالة معها في هذا المنزل الضخم، لكن الآن ب
فكان لا بد من مواجهة الحقيقة.وهي أن أحمد قرر التخلي عنها نهائيًا.لكنها أيضًا اتخذت قرارها الخاص، بابتسمت بلطفٍ لمحمود قائلة: "أنا آسفة، أخبر أحمد أنني رجعت في كلامي"لم يستطع محمود فهم هذان الإثنان، ففي البداية، كان أحمد من يصر على الطلاق، وبعد ذلك أصبحت سارة هي من تطلب الطلاق، والآن بعد أن وافق أحمد على ذلك، رجعت سارة في كلامها.هل يعتقدون الأمر مزحة؟هل السجل المدني تحت إمرتهم؟لو كان خالد هنا لبدأ بالتذمر منذ وقتٍ طويل، لكن محمود أبقى على هدوئه، وأكمل بجديّةٍ قائلًا: "أنا أعتذر يا سيدتي، لكن ليس لدي الحق بقول ذلك، فلستُ أنا صاحب القرار، أرجو منك فقط أن ترافقيني""لن أصعب عليك الأمر، فلنذهب إذًا" كانت سارة تتوقع تلك النتيجة بالفعل، فأخذت وشاحها وغطت جسدها جيدًا، ثم خرجت برفقته.في كل محاولة للطلاق بينهما، كانت تحدث أمور غير متوقعة، لكن الأمر كان سلسًا بشكلٍ غريب اليوم، حتى أن العاصفة التي بدأت منذ أيامٍ قد توقفت بالفعل، وسطعت الشمس المشرقة في السماء.على الرغم من أن الشمس أشرقت بعد تساقط الثلوج، إلا أن الحرارة ظلت منخفظة كما هي، لكن أشعة الشمس الدافئة بدأت بإذابة الثلوج ع
في اليوم الذي تأكدت فيه سارة بتشخيصها بسرطان المعدة، كان أحمد يُرافق عشيقته في إجراء الفحوصات الطبية لابنها.في ممر المستشفى، نظر باسل إلى تقرير الخزعة بوجه جاد وقال: "يا سارة، لقد ظهرت نتائج الفحص. هناك ورم خبيث من المرحلة الثالثة، إذا نجحت الجراحة، فإن معدل البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات يتراوح بين خمسة عشر إلى ثلاثين بالمائة.تشد سارة بحزام حقيبتها على كتفها بيدها الرفيعة، وكان وجهها الشاحب يبدو جاداً: " يا زميلي الأكبر، كم من الوقت يمكنني العيش دون جراحة؟""من نصف عام إلى عام، يختلف من شخصٍ لآخر. في حالتكِ، من الأفضل أن تقومي بالعلاج الكيميائي لمرتين قبل الجراحة، فهذا يمكن أن يمنع انتشار الورم وتفشيه."سارة عضت شفتيها بصعوبة وقالت: "شكراً لك.""لا داعي للشكر. سأُرتب دخولك إلى المستشفى.""لا حاجة لذلك، أنا لا أنوي العلاج. فلا أستطيع التحمل."كان باسل يريد أن يقول شيئاً آخر، لكن سارة انحنت له باحترام وقالت: " يا زميلي الأكبر، أرجو منك أن تحفظ بهذا السر، فلا أريد أن تشعُر عائلتي بالقلق."في ذلك الحين قد أفلست عائلة سارة، وتحمُل تكلفة علاج والدها يستنزف كل طاقتها، بالإضاف